الطليعة الشحرية
الحلقة الأولى:
الذبابة التي أرادت أن تكون فراشة
لم أكن أظنُّ أنَّ رحلة الشرنقة الطويلة، حيث الصمت والتأمل والانطواء، ستنتهي بي إلى باب مؤسسة آدميّة. خرجتُ من عزلتي بأجنحةٍ ملونة كقصيدة، ورحتُ أبحث عن فضاءٍ يليق بالتحول الذي اكتمل في داخلي، فجاءني خطاب التعيين: "يسرّ المؤسسة أن تقبل تعيينكم ضمن طاقمها."
ارتجفتُ فرحًا، وقلتُ في نفسي:
-ها قد آن للفراشة أن تكتب فصلها في دفتر العمل، وأن تضيف رقتها إلى حسابات الإنتاج.
دخلتُ المبنى بثقة الكائن الذي خرج من محنته وقد صار معنى، فإذا بي في عالمٍ لم يشبه أحلامي عالم عجيب من البدائع والغرائب، زملاء يُشبهون الكائنات أكثر مما يشبهون البشر، أقنعة تتحرك على أوجه، وأصواتٌ تصخب أكثر مما تعمل.
في الردهة الأولى، صادفت ذبابة ضخمة ببدلة رسمية، تطلب دعوةً لحفلٍ لم يُدعَ إليه بعد، وتصرُّ أن يُذكر اسمها مع عائلتها. في الممر، رأيت حرباء تتبدل ألوانها مع كل مدير يمرّ بجوارها، وفي قاعة الاجتماعات، دوّى صوت ببغاء يُعيد ما قاله غيره بصوت أعلى. وعلى الطاولة، قردٌ يقفز فوق الأكتاف ليجلس بقرب الرئيس. ثم طاووس ينشر ريشه كما لو أن المكتب خشبة مسرح. وثعلب يعد بما لا يملك، وتمساح يبكي ليتحايل، وكلب يلهث وراء فتات المديرين. وبينهم جميعًا، نملة صامتة تحمل العبء ولا يلتفت إليها أحد.
تساءلتُ في سري:
أهذه هي المؤسسة؟ أم أنني دخلتُ حديقة أقنعة؟
لكنني لم أهرب، بل قلت:
- سأكتب يومياتي هنا. سأرصد ما أراه بعيني الفراشة، وأدوّن ما يكشفه السلوك عن نفوسٍ متعبة، متسولة للمكانة أو مرعوبة من السقوط.
وهكذا فتحتُ دفتري، وكتبت في الصفحة الأولى:
"دخلتُ إلى عالمٍ آدميٍّ يزدحم بالكائنات الرمزية؛ عالمٍ لم يخلُ من العمل، لكنه امتلأ بالتمثيل. وها أنا أبدأ تدوين يومياتي: من الذبابة، إلى الحرباء، وما بعدها من عجب."
في اجتماعي الأول بالمؤسسة، لم يلفت نظري جدول الأعمال ولا وجوه الحاضرين، بل ذاك الطنين الذي سبق دخولي إلى القاعة، طنينٌ خفيّ لكنه عنيد، يذكرني بضجيج صيفٍ يفسد سكينة الحديقة. رفعت عيني، فإذا بي أرى زميلةً في هيئة آدمية، لكن كل حركةٍ فيها تصرخ بأنها ذبابة متجسدة.
رفرفت بأكمامها كما لو أنها أجنحة، أخذت تلتفّ حول الكراسي بقلقٍ يشبه ارتباك الحشرات عند النافذة، ثم لمّا استقرت، لم تكتف بمقعدٍ عادي، بل جلست في صدر القاعة كأنها صاحبة الدعوة.
قالت بصوتٍ متهدّجٍ من الغرور، لا يخلو من نشاز:
- "لا يليق بمحفلٍ كهذا أن يُعقد دون أن أُذكر فيه، بل عليّ أن أحضر مع أسرتي كاملة، فنحن واجهة المكان وبهجته!"
سقطت الكلمات على الحاضرين كحجرٍ في ماءٍ راكد، بعضهم ابتسم مجاملة، وبعضهم أطرق رأسه كارهًا، كمن يتمنى أن تختفي الطنينات من أذنه. أما المدير فابتسم ابتسامة باهتة، وقال محاولًا التوازن:
ــ "لكن الدعوات محدودة، والميزانية ضيقة."
عندها ضربت الذبابة بأكمامها كمن يصفق بجناحين وقالت في نبرةٍ أعلى:
ــ "الفراشات لا تُسأل عن الميزانية، فكيف بي وأنا أعظم منها؟!"
ضحكتُ في سري كانت ملامحها تقول شيئًا، وأحلامها تقول شيئًا آخر. تحاول أن تستنسخ حياة الفراشة: تقلد مشيتها، وتصبغ ثوبها بألوان زاهية لا تناسبها، وتحرك رأسها كما تحرك الفراشات أجنحتها حين تحطّ على الزهور لكنها مهما فعلت، لم تستطع أن تغيّر حقيقتها. فالذبابة، وإن جلست على عرش، تظل ذبابة.
بعد الاجتماع، اقتربتُ منها، مدفوعةً بفضولٍ لا يخلو من شفقة، وسألتها برفقٍ يخفي استنكاري:
ــ "أما يكفي أن تكوني حاضرة؟ لمَ تُصرّين على أن يُفرض حضورك على الجميع؟"
أجابت باستهزاء، وهي تميل برأسها يمنة ويسرى:
ــ "من لا يفرض نفسه لا يُرى، ومن لا يُرى لا يُحسب. أنا هنا لأُحسب، لا لأُهمَل."
ثم اقتربت أكثر، همست كمن يكشف سرًا:
ــ "إن جلست حيث يجلس الأمير، فسأصير أميرة. وإن حُسبت مع الوجهاء، صرتُ وجهًا، ولو بلا ملامح."
تأملتُها طويلًا، في عينيها بريق وهمٍ يحاول أن يتشبّه بالضياء، لكنه ينطفئ كلما اقتربت منه. كانت تقنع نفسها أن الظل إذا جاور النور صار نورًا، وأن القرب من العرش يمنحك تاجًا، حتى لو كنتَ بلا رأس يليق به.
لكنها لم تدرك أن الأصالة لا تُستعار، وأن الفراشة لم تكتسب بهاءها بالظهور، بل بالصبر الطويل في شرنقتها، بالتحوّل الداخلي الذي سبق التحليق الخارجي.
كتبتُ في مذكراتي تلك الليلة:
"الذبابة قد تفرض حضورها على الأعين، لكنها لا تفرض معناها على القلوب. الطنين لا يُغني عن الموسيقى، والاستنساخ لا يولّد حياة. من أراد أن يكون فراشة، عليه أن يذوق صمت الشرنقة قبل أن يجرؤ على الطيران".